نتحدث جميعاً كمحللين عن الحشود. نربطها مرةً بالثورة ومرة ثانية بالهستيريا، ذات النزعة الفاشية، المؤججة بفعل الإعلام، للانتقام من حكم الإخوان الفاشل والإقصائي، مثل حشود جابرييل تارد الحانقة. ونهملها مراراً لتناقض مطالبها. مكتفين بتحليل أثر وجودها كقواعد شعبية مناصرة، سهلة الإنقياد لتمكين هذا أو ذاك القطب السياسي في رسم خريطة مستقبلية للتحول الديموقراطي، أو لدرء شبح الاقتتال الأهلي بين مناصري ومعارضي الإخوان.
هذا الارتباك يسود التحليلات المهتمة برصد اثر سياسات الشارع. إلا أننا نرى في المقابل مدارس تحليلية كاملة تصمم على قسر رؤاها على حسابات القصر والمفاوضات الإقليمية والدولية كمسرح وحيد دال عن معنى الأحداث. لذا تبدو مهمة تفكيك أطرالتفسيرملتبسة إن لم تكن مستحيلة، حيث لا بد لها من استيفاء فهم دلالة الحشد وتنوعه، رصد معالم الاقصاء وسيناريوهاته من الجانبين. إضافة إلى رصد معنى تدخل الجيش منذ الثلاثين من يونيو في المشهد، كمنفذ للإرادة الشعبية وقدراته التفاوضية إقليمياً ودولياً لطرح معالم مجال سياسي مختلف عن العامين المنصرمين.
حشود متناقضة الرؤى والدوافع
لا يمكن تجاهل إتساع مجالات الحشد وتنوع رؤاها ومطالبها واستبسالها في البقاء في الشارع، على مدار عشرة أيام. سواءً عبرت هذه الحشود عن تأييدها للشرعية الانتخابية، أو انتصرت لمدنية الدولة المصرية، أو سعت للتذكير بضرورة استمرار مطالب الثورة في توسيع المجال السياسي وتغيير آليات الحكم السلطوي. هذا الحكم السلطوي الذي ميز فترات حكم المجلس العسكري والإخوان سواءاً بسواء.
تتوارى أهمية القياس العددي لكل معسكر أمام ضرورة رصد قدراته التنظيمية ومدى تصميمه على الاستمرار في الضغط. هنا يقل الإلتباس نوعاً ما، ويتركنا مع استنتاج أول مرّ: ضعف الحشود الثورية مقارنة بالمعسكرين الأوائل. هذا لا يعني فقط استلاب اللحظة الثورية، بقدر ما يشير إلى الخواء السياسي الذي مازال ينتظر خطاباً ليبلوره ويبلور مساعيه وامكانيات تحقيقها. وهذا لا يعني بالضرورة أيضاً انتصار الثورة المضادة، بقدر ما يعكس خيبة أمل عميقة في إمكانيات التغيير.
لعل تعبير ”خيبة الأمل“ يشكل مفتاحاً مركزياً لفهم سيكولوجية الحشود، بعيداً عن مقولات سوسيولوجيا الجماهير لـ Tarde أو لـ Le Bon، من حيث كونها بالضرورة غوغائية وعاطفية النزعة. إنها حشود مدفوعة بطلب ترجمة الشعارات إلى واقع معاش؛ حشود ليست متعجلة بقدر ما تطالب بالعبور للخطوة القادمة. سواءً تمثلت تلك الخطوة في تسييد الإخوان، كأكبر قوة سياسية منظمة في مصر، وإنهاء تعرضها لمؤامرة إجهاض من مؤسسات نظام مبارك، أو تجسدت في إنهاء حكم الإخوان ”الفاشل“. حكم ”فاشل“ بكل المعايير والركون لمؤسسات الدولة التي طالما استطاعت الوفاء بأدوارها بدرجة أكبر من الفاعلية عن اللحظة الإخوانية. تحاول هذه الحشود كذلك جاهدة التمترس وراء الإثنين وعشرين مليون تفويض، متضاربة طبعاً في دوافعها، لاختراق المجال السياسي وبدء التفاوض باسم تمثيل الثورة. هذا المجال السياسي المغلق أمامهم ويحتكره العسكر والاسلاميون ورموز النظام القديم.
رفض التعايش كسمة مشتركة
وحين نتجاوز مهمة رصد مورفولجيا الحشود لتحليل ترجمة مطالبها السياسية عبر ممثليها، نجد قاسماً مشتركاً جديداً ومختلفاً عما اتسمت به الحشود في يناير2011، أو في مواجهات الشباب الثوري أو القطاعات الغاضبة في محمد محمود ومجلس الوزراء والإضرابات الطلابية والمهنية والعمالية. إنها حشود تريد أولاً قمع الصوت الجماهيري المناقض. ولا تتجه للسلطة بمطالب، بل تتوسل إلى قياداتها المختلفة لسحق الطرف المنافس حسما للمسار المتخبط.
تتضح هذة السمة حين نراجع المواقف الشعبية من سقوط أكثرمن سبغة وخمسين قتيلاً عند مبنى الحرس الجمهوري المصري، سواءً عبر الخطاب الإخواني أو أنصار خطاب مصرية الدولة ضد إسلاميتها. تختزل هذه السمة الجديدة من قدرة الحشود المنادية بثورة ديموقراطية، بل تخنقها لتصبح خطاب يفتقد الحدية والحدة. ولكن لا يعني ذلك انتصاراً للثورة المضادة، بقدر ما يؤكد الخواء السياسي المتعاظم في مصر منذ شهور.
الجيش: بين تمثيل المؤسسة و تجسيد الدولة الوطنية
تبقى هناك فروق شاسعة، بين موقف الجيش في فبراير 2011 وبين موقفه في يوليو 2013. وذلك على الرغم من تشابه آليات تدخله من الناحية الإجرائية وتطابق خطابه القومي المؤكد على تمثيل الجيش وامتثاله للإرادة الجماهيرية والمصلحة الوطنية. يكمن مرد الإختلاف في قضيتين: الأولى هي اختفاء القطب المنافس الحقيقي للجيش، والمتمثل في ”بلاط“ جمال مبارك وخططه النيولبرالية المحتكمة للقانون والأمن، وليس للجيش، كأساس لممارساتها السلطوية. أما الثانية تتمثل في انتهاء قلق الجيش على مستقبله كمؤسسة سيادية واقتصادية وسياسية نافذة.
يظل اليوم الجيش في المقعد الخلفي، يحبك التحالفات ويضع شروط اللعبة. لكن من مكان أكثر ثباتاً، لأنه ببساطة لا يمثل اليوم قطاعاً أو طرفاً في اللعبة، بقدر ما يجسد تاريخانية historicity، تطالب بها قطاعات عريضة من المجتمع المصري ولأسباب مختلفة. أقصد بذلك تاريخانية دولة التحرر الوطني ومفرداتها. ولا يساند هذه التاريخانية الناصريون، أو اليسار القومي، أو الطبقات الوسطة المؤيدة لمبادئ التحديث فقط، بل أيضاً قطاعات من اللبراليين السياسيين والاقتصاديين، وجموع من يسار تتمنى تبلور الصراع ضد الجيش كممثل قائد للثورة المضادة، دفعاً لحركة التاريخ واتضاح قطبي الثورة والثورة المضادة.
ربما لن يدوم هذا التوافق السائل الا لأسابيع. ولكن من المحتمل أيضاً أن يدوم لفترة أطول لأنه يعبر عن السردية الراسخة الوحيدة في لحظة سيولة سياسية واختلاط مصالح وهشاشة تحالفات. إنها سردية دولة ما بعد الاستقلال، التي تطرح التوحد كأداة للفعل في مواجهة تعدد التحديات والتي تعبئ المشاعر القومية ضد عدو خارجي له أتباعه في الداخل، والتي ترجع النظام السياسي إلى دور المدافع عن الوطن وليس المطالب ( بفتحة على اللام) باحترام قواعد المساءلة والشفافية واحترام الحقوق والحريات في إطار داعم للتعددية وإدارتها.
بهذا المعنى، تجسد الأسابيع الأخيرة في مصر نكوصاً على نموذج دولة ما بعد الاستقلال، أكثر بكثير من تمثيلها لانقلاب عسكري في مواجهة مدنيين. كما تبلور ثنائية النضال الثوري ليس ضد حكم الدين وإنما ضد ميراث وهم التوحد الوطني واللحمة القومية في عالم أوسع يستهدف مصر. فهل ستكون هذة الثنائية هي مفتاح فهم وحراك القوى الثورية الديموقراطية في الشهور القادمة؟